قريبا من الله: صور تذكارية للموت-عبد اللطيف الخياطي-المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

قريبا من الله: صور تذكارية للموت

  بورتري لعبد اللطيف الخياطي بريشة الفنان أحمد أفيلال    



لم تخلف لنا الوالدة أية صورة. الغالب أنها لم تتصور قط ، لذلك لا أستطيع أن أحدد لها ملمحا، ولن أتعرف عليها إن حدث ـ بمعجزة ـ والتقيت بها في الشارع، ربما ستتعرف علي هي العائدة من عالم الغيب. و حينذاك من سيحنو على الآخر: الإبن ذو الخمس والثلاثين عاما، أم الأم التي توقف سنها عند الرابعة والعشرين ؟ ! أنا أكبر من والدتي ...! منذ وعيت هذه الحقيقة لم أعد أحس باليتم بالحدة نفسها، على الأرجح هي التي تستحق العطف والحنان .
الصورة الوحيدة والواضحة التي أحتفظ بها في ذاكرتي هي صورة حمامة بيضاء .. هكذا رأيتها ذات ليلة في حلمِ مراهقٍٍ ، كانت تنظر إلي من مسافة وكأنها لا تستطيع الاقتراب أكثر، نظرة تضامن فيها الكثير من الحب و غير قليل من الحزن و الأسف. زارتني في المنام متقمصة صورة الحمام، لكنني عرفتها، مثلما يعرف المؤمن الله، و تيقنت من أنها هي .. و أنا كنت مؤمنا، و كنت قريبا من الله.
لا، بل هناك صورة أخرى لن أنساها أبدا، بالرغم من أنها غدت ملتبسة و أقل وضوحا بفعل الزمن، وبفعل التفاسير و التأويلات التي أدخلها عليها الكبار. حدث ذلك في بحر الأسبوع الذي شهد الجنازة. كنا ننام مع جدتي، و ربما نامت معنا بنات عمي في غرفة واحدة ، عندما أطلت بوجهها من الباب فرس، أومأت لي فتبعتها وكأنها سقودني إليها .. إلى أمي التي أتحرق لها، أو كأنها هي.. ! كانت الفرس تشع بياضا، لا شية فيها، تحت نور القمر في فناء الدار . و حين تعثرتُ وقفتْ تنظرني و حمحمت محركة قوائمها. حثثت إليها على أربع، و في اللحظة التي كدت ألمسها انتشلتني يد من الأرض، كانت يد جدتي، عادت بي إلى الفراش... سيقال لي الفرس "عودة المقابر" ما كان علي أن أتبعها، و بأن جدتي أنقذتني في تلك اللحظة الحاسمة من شر مستطير...
 
عدا هاتين الصورتين لا أحتفظ لها، في الواقع و منه، سوى ببعض ذكريات هلامية. أذكرها، مثلا، وهي تعود من الغابة تنوء تحت حمل من الحطب ، مرتدية منديلها الجديد المخطط بالأبيض و الأحمر و معتمرة شايشيتها ذات " النواويش" ، أو راجعة من البئر وأنا معها أتمسك بذيل البغلة. أذكر سقوطي و إياها عن ظهر الدابة و نحن ذاهبين لزيارة جدي، فأنهض لأنفض عنها ما علق من غبار الطريق، غير مبال بما يكون قد أصابني، وأنا بعد في عامي الرابع ـ هل أتذكر الحادثة فعلا، أم أحفظها فقط لكثرة ما سمعتها من الكبار !ـ و أذكرها ممسكة بمصباح الغاز ذات ليلة، و أنا ألف حولها، وهي تحاول حمايتي من والدي الذي عاد من سفر و لم يجدني بالبيت.. أذكرصرختها، و أذكرها تسقط فاقدة الوعي لما جرحتُ رأسي بموسى الحلاقة الذي تركه أبي في نافذة ( سمعت فيما بعد أنها لا تطيق رؤية الدم).. أتذكرها تعمل المنجل في حقل الزرع، بينما أرقد عند جذع شجرة لوز يعبث بي نمل و يقرصني فتهب إلي ...
 
يخيل لي، بل يمكنني الجزم ( غير متعلل و لا محكوم بضرورة سردية) أتذكر كيف ولدت صامتا و ظللت أبحلق في الوجوه من حولي لحظة استقبالي للعالم، متسائلا في استنكار من أين انبثق كل هذا الظلام الأبيض؟ ! و هذه الأشباح ، و الضوضاء ! أتلقى الصفع على مؤخرتي كي أصرخ، لكنني أزم شفتي في عناد وأرفض البكاء... أعلم الآن أنني قلت ما لا يقال، و أن القارئ لن يصدقني، ضاربا بسيرتي بينكم عرض الحائط، سيقول هذه الصورة بالضبط مجرد استيهام أدبي ، لذا أستسمح و أضع نقطة النهاية لهذا الهذيان.



 
  عبد اللطيف الخياطي-المغرب (2011-10-27)
Partager

تعليقات:
عبد الواحد ابروح /تطوان 2011-11-03
انا اصدقك للىن كل تلك الصور حية نابضة عشناها جميعا وكنت امنى ان يقترح القراء او فريق المجلة نصوصا متالقة كل سنة او نحو ذلك وهذا ايضا هذا النص سبق ادراجه و و يحفل بلغة عميقة يتجاوز فيها الواقع الخيال الشاعري الذي يتخلله
البريد الإلكتروني : ABDO|SE@LIVE.FR

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

قريبا من الله: صور تذكارية للموت-عبد اللطيف الخياطي-المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia